الحرب "الإسرائيلية"-الإيرانية- دروس لتركيا في مواجهة تهديدات المستقبل

نشرت أكاديمية الاستخبارات الوطنية التركية دراسة تحليلية معمقة حول المواجهة "الإسرائيلية"- الإيرانية، وذلك لأسباب جوهرية تتجاوز كونها مجرد صراع إقليمي حاد، أو حتى مستودعاً للخبرات والدروس القيمة. بل لأن تركيا نفسها قد تجد نفسها في المستقبل في مواجهة حروب مماثلة، وهو ما أكدته الدروس التي استخلصتها الأكاديمية.
التقييم
تأسست أكاديمية الاستخبارات الوطنية في يناير/ كانون الثاني من عام 2024، وقد جرى الإعلان الرسمي عن إنشائها من قبل رئيس جهاز الاستخبارات، إبراهيم كالين، أثناء الاحتفال بالذكرى السابعة والتسعين لتأسيس الجهاز في شهر أكتوبر/ تشرين الأول من العام ذاته.
يكمن الهدف الأساسي من إنشاء هذه الأكاديمية، التي تعمل كمؤسسة للتعليم العالي ضمن هيكل جهاز الاستخبارات، في إضفاء طابع أكاديمي متخصص على عمل الجهاز من خلال توفير التعليم العالي الرفيع، وإجراء البحوث العلمية الدقيقة، ونشر الدراسات المتخصصة في ميدان الاستخبارات والأمن القومي.
وبناءً على ذلك، تستهدف تقارير الأكاديمية المنشورة، الرأي العام الواسع، والأوساط الأكاديمية التركية المتعمقة، بالإضافة إلى منتسبي جهاز الاستخبارات على حد سواء.
في مطلع شهر أغسطس/ آب الجاري، قامت الأكاديمية بنشر تقرير مفصل وشامل يمتد على 58 صفحة، يتناول الحرب "الإسرائيلية"- الإيرانية تحت عنوان "حرب الـ 12 يوما ودروس لتركيا".
تتألف هذه الدراسة المتكاملة من مقدمة تفصيلية، تليها ثلاثة فصول رئيسية تتناول بعمق تقنيات الحرب التقليدية والهجينة، والتقييمات الشاملة والدروس الهامة المستخلصة، والسيناريوهات المستقبلية المحتملة، قبل أن تختتم الدراسة بفصل مستقل بذاته تحت عنوان: "النتائج والخطوات الواجب على تركيا اتخاذها".
في تقديمه الثاقب للدراسة، قام رئيس الأكاديمية المتميز، الدكتور طلحة كوسة، بتأطير الحرب "الإسرائيلية"- الإيرانية ضمن سياقين رئيسيين ومترابطين؛ الأول يتمثل في التأثيرات العميقة لعملية السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023 (عملية "طوفان الأقصى" وما تلاها من تداعيات)، والثاني يتمحور حول الفشل الذريع للمفاوضات الإيرانية- الأميركية في التوصل إلى اتفاق حاسم بشأن المشروع النووي الإيراني.
وفقًا للدراسة المعمقة، فقد أظهرت الحرب بجلاء أن كلاً من إيران وإسرائيل قد قامتا بتغيير استراتيجياتهما السابقة بشكل ملحوظ، وبالتالي فقد شكلت الحرب بدورها نقطة تحول جوهرية في المنطقة في مرحلة ما بعد السابع من أكتوبر/ تشرين الأول، ما أدى إلى تغيير المعادلات الإقليمية إلى حد بعيد.
وخلصت الدراسة إلى عدة تقييمات رئيسية، في مقدمتها أن إيران قد خرجت من هذه الحرب بضربات موجعة وخسائر فادحة، وذلك نتيجة لتقنية الهجوم المفاجئ الذي اعتمدته إسرائيل، وتفوقها العسكري الساحق، وتقنيات الاستخبارات المتطورة التي استخدمتها، ودعم الحلفاء القوي (في إشارة واضحة إلى الولايات المتحدة الأميركية) الذي حظيت به.
إضافة إلى ذلك، لم تتحقق توقعات إسرائيل بحصول حراك شعبي واسع النطاق في الداخل الإيراني يؤدي في نهاية المطاف إلى تغيير النظام الحاكم، حيث وقف الإيرانيون في الخارج بشكل عام صفاً واحداً مع شعبهم وبلادهم واستقلال دولتهم، مع الإشارة إلى أن " مستقبل الوحدة الداخلية الإيرانية " مرتبط إلى حد ما بمسارات المواجهة ونتائجها على المدى البعيد.
كما أثبتت الحرب، وفقًا للدراسة المتأنية، الأهمية القصوى للقوة الجوية في الحروب القصيرة، وخاصة بين الدول التي لا تملك حدودًا برية مشتركة، وهو ما عمل لصالح إسرائيل بشكل ملحوظ وملموس، فيما حاولت إيران جاهدة ردم هذه الهوة من خلال صواريخها الباليستية الفرط صوتية المتطورة.
وركّزت الدراسة أيضًا على أهمية وتأثير عناصر أخرى لا تقل أهمية عن البعد العسكري المباشر، مثل الهجمات السيبرانية المدمرة، وحرب المعلومات المضللة والبروباجندا الدعائية، والشبكة الاستخباراتية والعملياتية المعقدة التي أنشأتها إسرائيل داخل الأراضي الإيرانية، فضلاً عن عناصر الدفاع المدني الحيوية من قبيل منظومات الإنذار المبكر الفعالة والملاجئ المحصنة.
الدلالات
وضعت الدراسة ثلاثة سيناريوهات رئيسية لمستقبل التصعيد المحتمل بين إيران وإسرائيل ومن خلفها الولايات المتحدة الأميركية؛ الأول هو العودة إلى طاولة المفاوضات بهدف التوصل إلى حلول دبلوماسية، والثاني يتمثل في فشل مسار التفاوض برمته، والثالث هو استمرار حالة التوتر والاحتقان الراهنة، مع احتمال العودة إلى حرب موسعة بين الجانبين في أي لحظة.
بهذا المعنى الواسع، تناولت الدراسة الحرب الأخيرة بين إسرائيل وإيران كنموذج حي لتغير طبيعة الحروب في العصر الحديث، وتحولها إلى حروب هجينة تتضافر فيها عناصر عديدة ومتنوعة ولا تقتصر بأي حال من الأحوال على توازنات القوة المادية أو العسكرية المباشرة.
لكن الدروس التركية المستخلصة من هذه الدراسة لا توحي فقط بقراءة متأنية في حرب يمكن الاستفادة منها في المستقبل، بل تتخطى ذلك بوضوح لـ "دروس تركيا" من الحرب باعتبارها دولة إقليمية محورية قد تتعرض لحالة مماثلة في المستقبل.
يتسق ذلك تمامًا مع التصريح الذي أدلى به الرئيس التركي مع بداية الحرب، حين أكد على الضرورة الملحة لتطوير بلاده صناعاتها الدفاعية وتعزيز قدراتها على حماية أراضيها ومواطنيها، فضلاً عن تصريحات سابقة وضعت تركيا كجهة مستهدفة من التطورات الإقليمية المتسارعة، ولا سيما بسبب الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة والمستمرة في المنطقة ضد عدة أطراف.
في مقدمة الدروس التركية المستفادة من الحرب، وفقًا للدراسة، تبرز أهمية القوة الجوية في حروب من هذا النوع، وهو ما يؤكد على ضرورة الاستمرار في تطوير الصناعات الدفاعية التركية المتقدمة، والدمج والتنسيق الفعال بين الأنظمة البشرية وغير البشرية (المسيّرات المتطورة وغيرها)، وكذلك تحديث أسطولها الجوي الذي تسعى له بشكل حثيث في الآونة الأخيرة.
حيث تسعى تركيا جاهدة لشراء العشرات من مقاتلات "إف-16" المتطورة من الولايات المتحدة الأميركية (بعد إخراجها من مشروع مقاتلات "إف-35" الذي لم تفقد الأمل فيه تمامًا)، ومقاتلات يورو فايتر من مصادر أوروبية موثوقة، فضلاً عن صيانة وتحديث ما لديها من مقاتلات "إف-16" حاليًا.
وتدعو الدراسة، بناءً على الدروس المستفادة من الحرب الأخيرة، إلى امتلاك تركيا منظومات دفاع جوي متعددة الطبقات ومنتشرة على مساحة الأراضي التركية بأكملها، فضلاً عن ضرورة الاهتمام الجاد بتطوير منظومة الصواريخ الفرط صوتية التي أظهرت فاعليتها الكبيرة في الحروب الحديثة.
ولم تغفل الدراسة الإشارة إلى أن الأهمية لا تقتصر فقط على التفوق التقني المطلق، وإنما تمتد أيضًا لتشمل كمية وحجم ترسانة الأسلحة التي تمتلكها الدولة، وهو ما يعزز أهمية تسريع عمليات التصنيع العسكري، إضافة إلى فاعلية الأنظمة نفسها.
ومما يعزز هذه القراءة المتعمقة في الدراسة الحالية تكرر المعنى ذاته في دراسة حديثة، صدرت في الشهر الفائت، للباحث المتميز في الشؤون العسكرية، مراد أصلان، في مركز الدراسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية "سيتا"، تحت عنوان "حاجة تركيا للطائرات الحربية واستيرادها"، حين أكد على ضرورة استعداد بلاده لاحتمال التعرض لهجوم جوي على جبهتين مختلفتين، قاصدًا بهما اليونان وإسرائيل.
أما الدرس الثاني المهم لتركيا من هذه الحرب فهو ضرورة تأمين الداخل التركي عبر منظومة دفاع مدني متقدمة تواكب منطق الحروب الحديثة، وعلى رأس الأولويات المشار إليها أنظمة الإنذار المبكر المتطورة، والملاجئ المنتشرة والمؤمنة من جميع النواحي، والتي تكون مناسبة تمامًا لحرب من هذا النوع.
حيث رصدت الدراسة بدقة أن افتقار إيران لهذا النوع من المنظومات المتكاملة، وامتلاك إسرائيل لها، كان السبب الرئيسي وراء الخسائر المدنية الكبيرة بشكل لافت في الجانب الإيراني.
كما أشارت الدراسة بوضوح إلى خطورة الحرب الإلكترونية وشبكات التجسس المعقدة وحرب المعلومات المضللة، مؤكدة على ضرورة إيجاد بدائل محلية لأنظمة الاتصال والتواصل وتبادل المعلومات، ولا سيما بالنسبة لمؤسسات الدولة الحيوية والموظفين والعاملين في مراكز حساسة للغاية.
أخيرًا، كان ثمة إشارة واضحة لأهمية تماسك الجبهة الداخلية في أي دولة تخوض حربًا من هذا النوع، والتي تشترك فيها القوة النارية الهائلة مع شبكات التجسس وحرب المعلومات والبروباجندا الساعية للتأثير على الجماهير وتوجيهها.
ولعله من المهم الإشارة هنا إلى أن المسار السياسي الأخير في تركيا لإنهاء المسألة الكردية أو ما أُطلق عليه "مشروع تركيا بلا إرهاب" كان من أهم دوافعه "تمتين الجبهة الداخلية" وفق تعبير الرئيس أردوغان بعد التطورات المتسارعة في المنطقة.
في الخلاصة الموجزة، وعلى الرغم من أن تركيا تابعت حرب الـ 12 يومًا بين إسرائيل وإيران عن كثب شديد، مع حرص لافت على عدم الانخراط أو التورط فيها بأي شكل من الأشكال، والسعي الحثيث للعب دور الوسيط النزيه، ولا سيما بين طهران وواشنطن على ما أعلنه لاحقًا وزير الخارجية التركي هاكان فيدان، فإن أكاديمية الاستخبارات الوطنية أكدت على فكرة جوهرية، وهي أن تركيا باتت ترى نفسها طرفًا مستهدفًا بحرب أو عدوان مماثل في المستقبل القريب، ولا سيما من قبل إسرائيل، وإن لم تذكر الدراسة ذلك بشكل واضح ومباشر.
مما يزيد من أهمية استخلاص أنقرة للدروس والعبر من الحرب الأخيرة، ليس فقط باعتبارها دولة إقليمية مهتمة بالتطورات المتسارعة في المنطقة، ولكن أيضًا كطرف يمكن أن يكون طرفًا فاعلاً في حرب مماثلة، ومما يزيد من تأكيد ذلك أن مجمل الدروس المستخلصة بالنسبة لتركيا – وفقًا للدراسة العميقة – ترتبط بتعزيز قدرات الأخيرة الهجومية والدفاعية في مواجهة إسرائيل وليس إيران.